فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

72- سورة الجن:
نزولها: مكية.. نزلت بعد الأعراف.
عدد آياتها: ثمان وعشرون آية.
عدد كلماتها: مئتان وخمس وثمانون كلمة.
عدد حروفها: تسعمائة وتسع وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
تكشف سورة الجن في صورة عملية، عما في الإنسان من جانبى الخير والشر، وأنه حين تنتكس طبيعته، ويغتال جانب الشر فيه جانب الخير، يتحول إلى شيطان رجيم، تعوذ منه الشياطين، أو تتلمذ عليه! وهذا الإنسان الشيطاني يبدو على أتم صورته المنكوسة تلك، في قوم نوح كما يبدو هذا الإنسان على صورة مجسدة في كثير من مشركى قريش، كأبى جهل، والوليد بن عقبة، وعقبة بن أبى معيط، وغيرهم من شياطين قريش، الذين تصدوا للدعوة الإسلامية، وكادوا لرسول اللّه وللمسلمين أعظم الكيد، فلم يدعوا وسيلة يتوسلون بها إلى أذى النبي وأصحابه إلا تواصوا بها، واجتمعوا عليها.
وفى سورة الجن صورة للخير ينبت في منابت الشر، ويطلع ثمره الطيب، من بين وسط هذا اللهب المتضرم.
فمن عالم الجن العاصف بالشرور المحرقة، تهب تلك الأنسام الرقيقة المنعشة، في صورة جماعة مؤمنة منهم، لم تكد تستمع إلى آيات اللّه، يتلوها رسول اللّه في ليلة من لياليه مع ربه- وكل لياليه لربه، ومع ربه- حتى أنصتوا إليه، وآمنوا به، ثم انقلبوا إلى قومهم منذرين!
فبين سورة (نوح) وسورة (الجن) مقابلة بين عالمين: عالم الإنس، وعالم الجن، وفى عالم الإنس شرّ كان حريّا أن يكون خيرا، وفى عالم الجن خير، كان متوقعا أن يكون شرا.. وفى هذا عبرة، وذكرى لأولى الألباب.
قوله تعالى: {قُلْ أوحي إليّ أنّهُ اسْتمع نفرٌ مِن الْجِنِّ فقالوا إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا يهْدِي إِلى الرُّشْدِ فآمنّا بِهِ ولنْ نُشْرِك بِربِّنا أحدا}.
جاء في سورة الأحقاف قوله تعالى: {وإِذْ صرفْنا إِليْك نفرا مِن الْجِنِّ يسْتمِعُون القرآن فلمّا حضرُوهُ قالوا أنْصِتُوا فلمّا قُضِي ولّوْا إِلى قوْمِهِمْ مُنْذِرِين قالوا يا قوْمنا إِنّا سمِعْنا كِتابا أُنْزِل مِنْ بعْدِ مُوسى مُصدِّقا لِما بيْن يديْهِ يهْدِي إِلى الْحقِّ وإِلى طرِيقٍ مُسْتقِيمٍ يا قوْمنا أجِيبُوا داعِي اللّهِ وآمِنُوا بِهِ يغْفِرْ لكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ويُجِرْكُمْ مِنْ عذابٍ ألِيمٍ ومنْ لا يُجِبْ داعِي اللّهِ فليْس بِمُعْجِزٍ فِي الْأرْضِ وليْس لهُ مِنْ دُونِهِ أوْلِياءُ أُولئِك فِي ضلالٍ مُبِينٍ} (29- 32: الأحقاف)- وهذا يعنى أن الجن عقلاء، مكلفون من اللّه سبحانه وتعالى، ومدعوون إلى الإيمان باللّه على يد رسل منهم، أو من البشر، فقد كان منهم المؤمنون بشريعة موسى عليه السلام، كما كان منهم الذين آمنوا بشريعة الإسلام.
وهذه الآيات، هي أخبار خاص للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- بما كان من توجيه اللّه سبحانه وتعالى نفرا من الجن إلى مجلس النبي، يستمعون إليه، وهو يتلو آيات اللّه، ليلة مبيته بموضع يقال له نخلة، وهو في طريق عودته من ثقيف، بعد أن جاءهم يعرض عليهم الإيمان برسالته، فجبهوه بالبهت، وردوه في غلظة وجفاء.
وقد سعد النبي الكريم بهذا الخبر الذي تلقاه من ربه، وأن مالقيه من ثقيف لم يكن إلا حدثا عارضا، وأن أمداد اللّه سبحانه وتعالى إليه لا تنقطع أبدا، وأنه إذا كان الإنس قد أبو أن يقبلوا هذا الخير الذي يدعوهم إليه، كما أبوا على آذانهم أن تستمع إلى آيات اللّه يتلوها عليهم- فإن للّه جندا في عالم الظلام والضلال- عالم الجن- قد خرجوا من هذا الظلام إلى النور، وجاءوا إلى حيث يتلو النبي آيات ربه، فاستمعوا إليه، وآمنوا به، وأصبحوا دعاة لدعوته، وجندا يدافعون عنها، ويقاتلون في سبيلها..
لقد كان هذا الخبر زادا طيبا للنبى الكريم، يتزود منه على مسيرة دعوته، التي توشك أن تنتهى المرحلة الأولى منها، فيتحول بعدها النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- من مكة إلى المدينة، بعد أن يلتقى بأهل السابقة من الأنصار، الذين جاءوا ليبايعوه على الإسلام، والنصرة، في بيعتى العقبة الأولى والثانية وهنا في سورة (الجن) أمر من اللّه تعالى للنبى بأن يتحدث إلى قريش، وإلى الناس عامة، بأنه قد تلقّى وحيا من ربه، بأن نفرا من الجن، قد استمعوا إليه، وآمنوا به، وتحدثوا عن القرآن الذي استمعوا إليه، هذا الحديث الذي يصف القرآن ببعض ماله من صفات المجادة والعظمة والجلال..
وقد يقول قائل: ما الفرق بين الخبر الذي تلقاه النبي في سورة الأحقاف، وهذا الأمر الذي تلقاه في سورة (الجن) وهو يحمل في كيانه محتوى هذا الخبر الذي تلقاه في سورة الأحقاف؟ وما الفرق بين أن يجيء الخبر غير مصدّر بالأمر بالقول، وبين الخبر الذي يجيء مطلقا، إذا كان القرآن كله في معرض العرض على الناس، دون أن يختص النبي بشيء منه يحتجزه لنفسه، ولا يذيعه في الناس؟
ونقول- واللّه أعلم- إن الخبر الذي تصدّر إلى النبي بهذا الأمر من اللّه سبحانه بلفظ {قل} إنما يراد به مواجهة المشركين خاصة، والاستعداد لتلقّى ما يثيره هذا الخبر فيهم من ثائرات البهت والتكذيب، وما يفتح لهم من أبواب التشنيع على الرسول والسخرية منه، وأن على النبي ألا يلتفت إلى تخرصات هؤلاء المشركين، ولا يحفل بما يثرثرون به من لغو وهذر، إزاء هذه الحقيقة التي استيقنها النبىّ، بعد أن أخبره اللّه سبحانه وتعالى بها، في الآيات التي تلقاها من سورة الأحقاف..
فالخبر الذي تلقاه النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- في سورة الأحقاف: {وإِذْ صرفْنا إِليْك نفرا مِن الْجِنِّ يسْتمِعُون القرآن..} هو أشبه بالسرّ بينه وبين اللّه سبحانه وتعالى، وإن كان هذا السرّ لا يلبث أن يذاع بعد أن تلقاه النبي قرآنا يتلوه على الناس..
أما الخبر الذي تلقاه- صلوات اللّه وسلامه عليه.. في سورة الجنّ، فهو أمر بالمبادرة بإذاعة هذا السرّ، الذي كان من شأنه أن يذاع، إن لم يكن اليوم فغدا، أو بعد غد.. إنه حثّ على المبادرة بإذاعة هذا الخبر، وتلاوته جهرا على الناس حتى يقرع أسماع المشركين، وليكن منهم ما يكون!! وسؤال آخر.. هو:
(مخاطبات القرآن وحكايتها كما هى.. ما سرّها؟) هذا الخبر، أو هذه الأخبار، التي يتلقاها النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- مصدّرة بلفظ {قل} أو {يا أيها النبىّ} أو {يا أيها الرسول} لما ذا يلتزم النبي أن ينقلها كما تلقاها، دون أن يتصرف فيها، فيأخذ منها ماله، ويدع ما ليس له، بمعنى أن يقطع مقول القول، عن القول، أو أداة النداء والمنادى، عن الخاطب به، فيقول ما أمر بقوله، دون أن يصدره بلفظ: قل، أو يا أيها النبىّ؟
إن المألوف في لغة التخاطب أن يقال للإنسان مثلا: قل: {لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه}.
فيقول: (لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه) ولا يقول: (قل لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه): إنه لو قال هذا لما كان ممتثلا للأمر. بل مردّدا لصدى الكلام الذي سمعه.. أفهذا كان شأن رسول اللّه حين لم ينقل الصورة اللفظية التي سمعها، قولا، ومقولا؟
والجواب- واللّه أعلم- من وجوه:
فأولا: هذا الأمر الموجه إلى النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- والمصدّر بلفظ {قل} هو أمر صادر إليه من اللّه سبحانه وتعالى، وأن هذا الذي يوحى من الحق جل وعلا، يملأ الوجود كله، ويسرى في كل ذرّة من ذرّاته، فهو ليس مجرد قول من شخص إلى شخص، وإنما هو من كلام ربّ العزّة، الذي تبلغ كلماته أسماع الكون، وتنفذ إلى أعماق كل ذرة موجودة فيه.
وثانيا: وتأسيسا على هذا.. أن النبي صلوات اللّه وسلامه عليه.. حين تبلغه كلمات ربّه، يمتلئ بها كيانه، وتفيض بها مشاعره، وتلبسه هذه الكلمات كما تلبس الروح الجسد.. ومن هنا فإنه لا يستطيع أن يفصل بعضا منها عن كيانه، كما لا يستطيع الإنسان أن يقطع بعض روحه، لأنها سر مضمر فيه، يجده ملء وجوده، ولكن لا يعرف لها ذاتا، ولا كنها، ولعلّ هذا من بعض ما يشير إليه قوله تعالى: {وكذلِك أوْحيْنا إِليْك رُوحا مِنْ أمْرِنا}
فإذا كان ما يتلقاه النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- من كلمات ربّه، هو روح منه، فهل يستطيع أن يغيّر من حقيقة الرّوح؟: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ ربِّي} (85: الإسراء).. فهو سبحانه وحده، الذي يملك أمرها، ويملك أن يغير أو يبدّل فيها كما يشاء.. ولعل هذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى: {وتمّتْ كلِمةُ ربِّك صِدْقا وعدْلا.. لا مُبدِّل لِكلِماتِهِ} (115: الأنعام).
وثالثا: أن اتصال الأمر بالمأمور به في كتاب اللّه، يجعل المأمور به دائما حيّا في حياة الناس جميعا، ويجعل المؤمنين به في حال حضور مع النبي، وهو يتلقى أمر ربه.. فكلما تلا المؤمنون آية من آيات اللّه، فيها خطاب من اللّه سبحانه وتعالى لنبيه الكريم- تمثّل لهم منها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يتلقى هذا الخطاب من ربه، ويصدع، بما يحمل هذا الخطاب إليه من أمر، أو نهى..
وهذا من شأنه أن يحرك مشاعرهم إلى متابعة النبي والتأسّى به، كلما تلوا آيات اللّه، وطلع عليهم هذا المشهد الذي يرون فيه رسول اللّه في مجلس التأديب، والتعليم من ربه.. وهذا هو بعض السر في أن كانت تلاوة القرآن، من عبادة المؤمنين التي تعبّدهم اللّه تعالى بها.. كما يقول سبحانه: {فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن} [20: المزمل].
ورابعا: في خطاب اللّه سبحانه وتعالى للنبىّ، وفى خطابه سبحانه للمؤمنين، في القرآن الكريم، شاهد يشهد بأن هذا القرآن هو من عند اللّه سبحانه وتعالى، لفظا ومعنى، وأنه ليس للنبى فيه كلمة واحدة، وأنه كلام اللّه سبحانه وتعالى، وأن النبي هو اللسان الذي أنطقه اللّه بكلماته التي أوحاها إليه، فسمعها الناس منه دون أن يبدل حرفا منه.. فإن الذي يتلقاه النبي من كلمات ربّه، هو روح تستولى عليه وتشيع في كيانه كله.
ويمكن أن نشبه هذا- مع الفارق البعيد في صورتى التشبيه- بما يكون من مسجّلة الصوت، حين تلتقط صوتا ما، ثم تعيده كما تلقته، دون أن يقع فيه أي تبديل، أو تحريف..
فالنبى صلوات اللّه وسلامه عليه، إذ يسمع قوله تعالى له: {قُلْ آمنّا بِاللّهِ وما أُنْزِل عليْنا وما أُنْزِل على إِبْراهِيم وإِسْماعِيل وإِسْحاق ويعْقُوب والْأسْباطِ..} الآية: (84: آل عمران)- لا يملك أن يبدل حرفا مما سمع، ولا يستطيع إلا أن يقول كما سمع: {قُلْ آمنّا بِاللّهِ وما أُنْزِل عليْنا..} الآية والنبي إذ يسمع قوله تعالى: {خُذِ الْعفْو وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأعْرِضْ عنِ الْجاهِلِين}.
(199: الأعراف)- لا يستطيع إلا أن يقول: {خُذِ الْعفْو وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأعْرِضْ عنِ الْجاهِلِين}..
وهكذا يحكى النبي ما سمع، دون أن يبدل كلمة، أو يغير حرفا.. واللّه سبحانه وتعالى يقول له: {يا أيُّها الرّسُولُ بلِّغْ ما أُنْزِل إِليْك مِنْ ربِّك وإِنْ لمْ تفْعلْ فما بلّغْت رِسالتهُ} (67: المائدة) فالأمر بالتبليغ، هو أمر بتبليغ ما أنزل إليه، كما هو، كلمة كلمة، وحرفا حرفا.. فإن بدل حرفا، أو غير كلمة- وحاشاه- فما بلّغ ما أنزل إليه من ربه.. إنه المطلوب من النبي في مقام التبليغ أن يقول ما يقال له من ربه، لأن ما أنزل إليه، سواء أكان خطابا خاصا، أو خطابا عاما للناس- هو منزل للناس أيضا، كما يقول سبحانه: {وأنْزلْنا إِليْك الذِّكْر لِتُبيِّن لِلنّاسِ ما نُزِّل إِليْهِمْ} (44: النحل) فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- مطالب أولا بأن يبلّغ الناس ما نزّل إليهم، وهو ما نزل عليه من كلمات اللّه.. ثم هو مطالب ثانيا، بعد هذا التبليغ أن يبين للناس ما خفى عليهم فهمه مما نزل عليهم من آيات اللّه..
فالتبليغ شأن، وبيان ما يبلّغه شأن آخر..
وبهذا التدبير الحكيم في نظم القرآن، يظل النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، قائما في مقام الخطاب من ربه، وفى الحضور بين يديه، كلما تلا آية من آيات اللّه، أو سمع تاليا يتلوها عليه، فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم، كان يطلب إلى بعض أصحابه أن يقرءوا عليه ما تيسر من كلام اللّه، فيقول قائلهم له:
أأتلوه عليك وعليك أنزل؟ فيقول صلوات اللّه وسلامه عليه: «نعم إنى أحب أن أسمعه من غيرى..» ففى البخاري عن عبد اللّه بن مسعود، قال: قال لى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علىّ» فقلت يا رسول اللّه: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «نعم.. إنى أحب أن أسمعه من غيرى» فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} فقال: «حسبك الآن». فإذا عيناه تذرفان.
وهذا الأسلوب الذي جاء عليه نظم القرآن، والذي يجعل النبي في مقام الحضور، والخطاب من اللّه بكلمات اللّه- هذا الأسلوب من شأن القرآن وحده، ومما اختص به من بين الكتب السماوية المنزلة..
فالتوراة ليس في نظمها موقف واحد لأى نبى من الأنبياء مع اللّه سبحانه وتعالى، يمثله في موقف حضور وخطاب من اللّه سبحانه، حتى موسى عليه السلام الذي كلمه اللّه تكليما من غير وساطة ملك الوحى، جاءت كل كلمات اللّه سبحانه وتعالى إليه في التوراة على سبيل الحكاية.. هكذا: وكلم الرب موسى قائلا: (فى الشهر السابع، في أول الشهر يكون لكم عطلة، تذكار هتاف البوق محفل مقدس.. عملا ما من الشغل لا تعملوا، ولكن تقدمون وقودا للرب)..
وكلم الرب موسى قائلا: (أما العاشر من هذا الشهر السابع فهو يوم الكفارة.. محفلا مقدسا يكون لكم، تذللون نفوسكم، وتقدمون وقودا للرب)..
وتقول التوراة أيضا: (فقال الرب لموسى: قل لهارون مدّ يدك بعصاك على الأنهار والسواقى والآجام، وأصعد الضفادع على أرض مصر.. فمدّ هارون يده على مياه مصر، فصعدت الضفادع، وغطت أرض مصر، وفعل كذلك العرافون بسحرهم وأصعدوا الضفادع على أرض مصر).
وتقول التوراة: (فقال الرب لموسى: انظر.. أنا جعلتك إلها لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك.. أنت تتكلم بكل ما آمرك، وهارون أخوك يكلم فرعون ليطلق بنى إسرائيل من أرضه).
وهكذا تمضى كل مخاطبات التوراة، فيما يتلقّى موسى من ربه، وفيما يتلقى بنو إسرائيل من موسى..
وهذا يعنى أن موسى عليه السلام، كان بعد أن يتلقى كلمات اللّه سبحانه وتعالى إليه- كان يلقى قومه بما أمره به فيهم، فيقول لهم: قال اللّه لى كذا، وكذا، فيكتبون هم: قال اللّه لموسى كذا، وكذا.. دون أن يتقيدوا بالنص الحرفىّ لما سمعوه من موسى، فبدلا من أن يكتبوا: قال اللّه لى كذا، يكتبون: قال اللّه لموسى كذا وكذا، كما أن موسى عليه السلام، لم يتقيد بالنص الحرفى لما استمع من ربه، فبدلا من أن يقول، كما قال اللّه سبحانه وتعالى له: يا موسى افعل كذا، أو قل لقومك كذا بدلا من أن يقول هذا، يقول: قال اللّه لى فعل كذا، أو افعلوا كذا.. وهذا الخروج على النص الحرفى، وإن بدا أنه مما يقتضيه الحال، حيث ينتقل موسى من حال المخاطب (بفتح الطاء) إلى حال المخاطب (بكسر الطاء) وحيث ينتقل قومه من حال المواجهة له، إلى حال الغيبة في نقل ما سمعوا منه- هذا، وإن بدا أنه لازم لمراعاة مقتضى الحال- إلا أنه يشير إلى أمور:
أولها: أن كلمات اللّه التي استمع إليها موسى، ظلت مرتسمة في كيانه، مضمرة في فؤاده، وأن ما ينشره على قومه منها إنما هو صورة هذه الكلمات وظلالها، والأنوار المشعة منها.. أما ما تلقاه محمد من كلمات ربه، فإنه عرضها كما سمعها، حرفا حرفا، وكلمة كلمة.. كما يقول له سبحانه له. {اتْلُ ما أوحي إليّك مِن الْكِتابِ} (45: العنكبوت)..
وذلك أنه ليس المطلوب من كلمات اللّه إلى موسى أن يقيم منها معجزة متحدّية، على خلاف ما أوحى اللّه به إلى محمد من كلماته، فإنه سبحانه جعل على فمه معجزات متحدية.. وإن المعجزة لا تتم حتى تعرض كما تلقاها من ربه، دون أن يغير من وضعها، أو يبدل من صورتها..
وثانيا: أن ما أوحى اللّه سبحانه وتعالى به إلى موسى، يجوز روايته بالمعنى، دون التقيد بالنص اللفظي، على خلاف القرآن الكريم، فإنه لا يجوز روايته أو تلاوته بالمعنى، كما يجوز ذلك في الحديث القدسىّ، الذي يشبه وحي التوراة.
وثالثا: أن القرآن الكريم، هو الكتاب الذي تأخذ آياته، وكلماته، الوصف بأنها آيات اللّه، وكلمات اللّه، وأن التوراة وغيرها من الكتب السماوية، تأخذ الوصف بأنها وصايا للّه، أو أوامر للّه، أو شريعة للّه..
وأما تكليم اللّه سبحانه وتعالى لموسى فهو خاص بموسى وهو أوامر اللّه سبحانه وتعالى إليه هو، في خاصة نفسه.. أما الشريعة التي حملها موسى إلى قومه، فهى ما تضمنته الألواح التي تلقاها موسى من ربه، فهى أشبه بالأحاديث القدسية التي تلقاها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ربه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى لموسى عليه السلام: {يا مُوسى إِنِّي اصْطفيْتُك على النّاسِ بِرِسالاتِي وبِكلامِي فخُذْ ما آتيْتُك وكُنْ مِن الشّاكِرِين وكتبْنا لهُ فِي الْألْواحِ مِنْ كُلِّ شيْءٍ موْعِظة وتفْصِيلا لِكُلِّ شيْءٍ} [144- 145: الأعراف] فاللّه سبحانه وتعالى- كما تشير الآيات- قد اصطفى موسى بهذه الرسالات التي تلقاها لتكون شريعة لقومه، كما اصطفاه بتكليمه.. فالرسالات التي تلقاها موسى شيء، وتكليم اللّه له شيء آخر.. كلام اللّه صفة من صفاته، والرسالات خلق من خلقه.
وعلى هذا، فالقرآن الكريم خطاب مباشر من اللّه سبحانه وتعالى للنبى والمؤمنين، أما التوراة، فهى حكاية خطاب اللّه تعالى لموسى، ثم هي حكاية لخطاب موسى لقومه الذين تلقوها منه.
ونعود بعد هذا إلى موقفنا بين يدى قوله تعالى: {قُلْ أوحي إليّ أنّهُ اسْتمع نفرٌ مِن الْجِنِّ فقالوا إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا يهْدِي إِلى الرُّشْدِ فآمنّا بِهِ ولنْ نُشْرِك بِربِّنا أحدا}.
النفر: الجماعة بين الثلاثة والعشرة..
والإسماع: الإصغاء والالتفات إلى المسموع..
وهذا يعنى أن جماعة الجنّ التي توافدت على مجلس القرآن بين يدى النبي صلوات اللّه وسلامه عليه- قد أعطت سمعها للقرآن، والتفتت بمشاعرها كلها إليه.. ذلك أنّ (استمع) غير (سمع) من حيث المعنى الاشتقاقى الذي يدل عليه كلّ منهما لما يسمع، فالاستماع يدل على التطلع إلى سماع الحديث والإقبال عليه، أما {السمع} فيدلّ على مجرّد وقوع المسموع إلى أذن السامع، سواء أكان ذلك عن قصد، أو غير قصد، وسواء أكان مقبلا أو معرضا! ولهذا جاء الأمر إلى المؤمنين وهم في مجلس القرآن أن يستمعوا، كما يقول سبحانه وتعالى: {وإِذا قرئ القرآن فاسْتمِعُوا لهُ وأنْصِتُوا لعلّكُمْ تُرْحمُون} (204: الأعراف) ولم يجئ الأمر بلفظ {اسمعوا}.
فإن الاستماع هو الذي يحقق معنى الإصفاء والإنصات الذي جاء تاليا للأمر بالاستماع. وإنه بغير الاستماع لا يتحقق الإصغاء.. وهذا ما كان من الجنّ في مجلس القرآن، ودعوة بعضهم بعضا إلى الإنصات إليه، كما يقول سبحانه، عنهم: {وإِذْ صرفْنا إِليْك نفرا مِن الْجِنِّ يسْتمِعُون القرآن فلمّا حضرُوهُ قالوا أنْصِتُوا} (29: الأحقاف).
فاللّه سبحانه، قد وجههم إلى النبي مستمعين، لا سامعين.. وهذا يعنى أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم بأمر هؤلاء الجن الذين استمعوا إليه في تلك الليلة، حتى أنبأه اللّه سبحانه وتعالى بذلك، ولم تكن منه في تلك الليلة دعوة إليهم، وإنما هم الذين دعوا أنفسهم إلى الإيمان، بعد أن استمعوا إلى ما استمعوا إليه من آيات اللّه التي كان يتلوها النبي، قائما بين يدى ربه، متعبدا بتلاوتها..
وفى هذا إشارة إلى تلك المفارقة البعيدة بين المشركين الذين يدعون إلى آيات اللّه، فلا يستمعون إليها، ولا يؤمنون بها، وبين الجن الذين يضرب بهم المثل في العتوّ، والعناد، والضلال، حيث ورد واردهم على النبي، وحضر مجلس تلاوته، من غير أن يدعوا إلى هذا.. فاستمعوا، وأصغوا، ثم اهتدوا وآمنوا.. فمال هؤلاء المشركين لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟.
وأما ما يروى من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد التقى بالجن، ودعاهم إلى اللّه سبحانه، فيما تلا عليهم من آيات اللّه، فقد يكون ذلك في ليلة بعد تلك الليلة، وبعد أن حمل هؤلاء النفر إلى قومهم نبأ النبي الذي نزل عليه هذا القرآن الذي استمعوا إلى بعض منه.. فجاءوا يطلبون مزيدا، ويلقون النبي لقاء مواجها، بعد أن عرفوا ما بين يديه من هدى ونور.
وعلى أىّ فإنه ليس مما يدخل في عقيدتنا، أو يلزمنا التصديق به، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث إلى الجن، كما بعث إلى الإنس، وحسبنا أن نؤمن بأنه رسول اللّه إلينا نحن البشر، وأن الرسالة الإسلامية، وكتابها الكريم، موجهان إلينا نحن البشر، أما أن تستفيد من ذلك عوالم أخرى فذلك ما لا يدخل في عقيدتنا، ولا يلزمنا البحث عنه. واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {فقالوا إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا}- هو بيان للأثر الذي كان للقرآن من استماع الجن إليه، وأنهم عجبوا لما سمعوا، لأنهم لم يسمعوا كلاما مثله، فكان ذلك مثار عجبهم، ودهشهم.. إنهم يسمعون كلاما، ولكنه كلام عجب، فيما له من سلطان على النفوس، وتمكن من القلوب..
وقولهم: {سمعنا} بدلا من (استمعنا) لأنهم خرجوا من مجلس الاستماع، وقد أصبح الذي استمعوا إليه مسموعا لهم سماعا متمكنا، واعيا.. ولو قالوا (استمعنا) لدلّ ذلك على أنهم تكلفوا جهدا لما سمعوا، وأنهم حملوا أنفسهم على ذلك حملا طوال مجلس الاستماع، والواقع غير هذا، فإنهم ما إن جلسوا بين يدى ما يتلى من آيات اللّه، حتى ملك القرآن زمامهم، وأحال وجودهم كله آذانا صاغية، وقلوبا خاشعة، من غير معالجة أو معاناة، من داخل أنفسهم أو خارجها..
وقوله تعالى: {يهْدِي إِلى الرُّشْدِ} هو صفة أخرى للقرآن، على لسان الجن، بعد الصفة الأولى التي وصفوه بها.. فالصفة الأولى، وصف لنظمه، وأنه كلام عجب لم يسمعوا مثله.. والصفة الأخرى، وصف لمعانيه، ولما اشتمل عليه نظمه العجيب من معان كريمة، مضيئة بنور الحق، تهدى إلى الرشد، والفلاح..
وقوله تعالى: {فآمنّا بِهِ ولنْ نُشْرِك بِربِّنا أحدا}- هو المسبب عن هذه الأوصاف، التي رآها الجن في القرآن، والتي وقعت في نفوسهم منه، ولهذا فهم يؤمنون بهذا القرآن، وبأنه كلام اللّه، ونوره المرسل هدى ورحمة للعالمين..
وهم لهذا لن يشركوا باللّه، ولن يعبدوا إلها معه، كما كانوا يفعلون من قبل فعل الضالين والمشركين من الإنس..
وقوله تعالى: {وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا}.. جدّ ربنا: ملكه، وسلطانه، ومجده،. وأصل الجد: الحظ، والنصيب الذي يصيبه الإنسان في حياته من حظوظ الدنيا.. فجدّه هو كل ماله من مال، ومتاع، وبنين، وعلم، وجاه وسلطان..
وقوله تعالى: {وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا} هو معمول لفعل محذوف، معطوف على قوله تعالى: {إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا} {سمِعْنا قرآنا عجبا} وعلمنا مما سمعنا أنه: {تعالى جدُّ ربِّنا ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا}.. وهكذا كل ما جاء على لسان الجن بعد هذا، هو معمول لفعل مترتب على استماعهم لما استمعوا من آيات اللّه وما كشفت لهم من حق وهدى.
وقولهم: {تعالى جدُّ ربِّنا ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا} أي عظم مجده، وتعالى سلطانه، وتنزهت عزته عن أن يتخذ صاحبة أو ولدا.. فإن اتخاذ الصاحبة أو الولد، إنما يكون عن حاجة إليهما، بحيث لو افتقد الإنسان وجودهما بين يديه تطلعت إليهما نفسه، وشغل بهما قلبه، واللّه- سبحانه- في غنى عن كل شيء.. فكل شيء هو منه، وله، وإليه..
قوله تعالى: {وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا على اللّهِ شططا}.. أي وعلمنا مما استمعنا إليه من هذا القرآن العجب أن ما كان يقوله السفهاء منّا عن اللّه، وعن اتخاذه الصاحبة والولد- هو قول بعيد عن الحق، مشتط عن الصواب، في حق اللّه سبحانه، وفيما ينبغى أن يكون لذاته من كمال، وجلال، وأن هؤلاء الذين جعلوا للّه أندادا، واتخذوا من دونه أولياء، ونسبوا إليه الزوج والولد- هؤلاء ضالون مشركون..
والشطط، والاشتطاط، الخروج عن القصد والاعتدال، ومجاوزة الحد في القول، أو العمل.. وهذا مثل قوله تعالى على لسان أصحاب الكهف:
{لنْ ندْعُوا مِنْ دُونِهِ إِلها لقدْ قُلْنا إِذا شططا} [13: الكهف].. اهـ.